فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البيضاوي:

سورة الجن:
مكية.
وآيها ثمان وعشرون آية.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{قُلْ أوحي إليّ}
وقرئ {أحي} وأصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها ووحى على الأصل وفاعله: {أنّهُ استمع نفرٌ مّن الجن} والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، و{الجن} أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية. وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها، وفيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله به رسوله. {فقالواْ} لما رجعوا إلى قومهم. {إِنّا سمِعْنا قرآنا} كتابا. {عجبا} بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه ودقة معناه. وهو مصدر وصف به للمبالغة.
{يهْدِى إِلى الرشد} إلى الحق والصواب. {فآمنّا بِهِ} بالقرآن. {ولن نُّشرِك بِربّنا أحدا} على ما نطقت به الدلائل القاطعة على التوحيد.
{وأنّهُ تعالى جدُّ ربّنا} قرأه ابن كثير والبصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول، وكذا ما بعده إلا قوله: {وأن لو استقاموا} {وأنّ المساجد}، {وأنّهُ لّما قام} فإنها من جملة الموحى به ووافقهم نافع وأبو بكر إلا في قوله: {وأنّهُ لّما قام} على أنه استئناف أو مقول، وفتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار والمجرور في {بِهِ} كأنه قيل: صدقنا {أنّهُ تعالى جدُّ ربّنا} أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم، أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت، والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه وقوله: {ما اتخذ صاحبة ولا ولدا} بيان لذلك، وقرئ {جدا} على التمييز {جِدُّ ربّنا} بالكسر أي صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد.
{وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا} إبليس أو مردة الجن. {على الله شططا} قولا ذا شطط وهو البعد ومجاوزة الحد، أو هو شطط لفرط ما أشط فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله.
{وأنّا ظننّا أن لّن تقول الإنس والجن على الله كذِبا} اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك بظنهم أن أحدا لا يكذب على الله، و{كذِبا} نصب على المصدر لأنه نوع من القول أو الوصف المحذوف، أي قولا مكذوبا فيه، ومن قرأ {أن لّن تقول} كيعقوب جعله مصدرا لأن التقول لا يكون إلا {كذِبا}.
{وأنّهُ كان رِجالٌ مّن الإنس يعُوذُون بِرِجالٍ مّن الجن} فإن الرجل كان إذا أمسى بقفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. {فزادوهُمْ} فزادوا الجن باستعاذتهم بهم. {رهقا} كبرا وعتوا، أو فزاد الجن والإِنس غيا بأن أصلوهم حتى استعاذوا بهم، والرهق في الأصل غشيان الشيء.
{وأنّهُمْ} وأن الإِنس. {ظنُّواْ كما ظننتُمْ} أيها الجن أو بالعكس، والآيتان من كلام الجن بعضهم أو استئناف كلام من الله تعالى، ومن فتح {أن} فيهما جعلهما من الموحى به. {أن لّن يبْعث الله أحدا} ساد مسد مفعولي {ظنُّواْ}.
{وأنّا لمسْنا السماء} طلبنا بلوغ السماء أو خبرها، واللمس مستعار من المس للطلب كالجس يقال ألمسه والتمسه وتلمسه كطلبه واطلبه وتطلبه. {فوجدناها مُلِئتْ حرسا} حراسا اسم جمع كالخدم. {شدِيدا} قويا وهم الملائكة الذين يمنعونهم عنها. {وشُهُبا} جمع شهاب وهو المضيء المتولد من النار.
{وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعد لِلسّمْعِ} مقاعد خالية عن الحرس والشهب، أو صالحة للترصد والاستماع، و{لِلسّمْعِ} صلة ل {نقْعُدُ} أو صفة ل {مقاعد}. {فمن يسْتمِعِ الآن يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا} أي شهابا راصدا له ولأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم، أو ذوي شهاب راصدين على أنه اسم جمع للراصد، وقد مر بيان ذلك في (الصافات).
{وأنّا لا ندْرِى أشرٌّ أُرِيد بِمن في الأرض} بحراسة السماء. {أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا} خيرا.
{وأنّا مِنّا الصالحون} المؤمنون الأبرار. {ومِنّا دُون ذلِك} أي قوم دون ذلك فحذف الموصوف وهم المقتصدون. {كُنّا طرائِق} ذوي طرائق أي مذاهب، أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت طرائقنا طرائق. {قِددا} متفرقة مختلفة جمع قدة من قد إذا قطع.
{وأنّا ظننّا} علمنا. {أن لّن نُّعْجِز الله في الأرض} كائنين في الأرض أينما كنا فيها. {ولن نُّعْجِزهُ هربا} هاربين منها إلى السماء، أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا ولن نعجزه هربا إلى طلبنا.
{وأنّا لمّا سمِعْنا الهدى} أي القرآن. {آمنّا بِهِ فمن يُؤْمِن بِربّهِ فلا يخافُ} فهو لا يخاف، وقرئ {فلا يُخفّفُ} والأول أدل على تحقيق نجاة المؤمنين واختصاصها بهم. {بخْسا ولا رهقا} نقصا في الجزاء ولا أن يرهقه ذلة، أو جزاء بخس لأنه لم يبخس لأحد حقا ولم يرهق ظلما، لأن من حق المؤمن بالقرآن أن يجتنب ذلك.
{وأنّا مِنّا المسلمون ومِنّا القاسطون} الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. {فمنْ أسْلم فأُوْلئِك تحرّوْاْ رشدا} توخوا رشدا عظيما يبلغهم إلى دار الثواب.
{وأمّا القاسطون فكانُواْ لِجهنّم حطبا} توقد بهم كما توقد بكفار الإِنس.
{وأنْ لوِ استقاموا} أي أن الشأن لو استقام الجن أو الإِنس أو كلاهما. {على الطريقة} أي على الطريقة المثلى. {لأسقيناهم مّاء غدقا} لوسعنا عليهم الرزق، وتخصيص الماء الغدق وهو الكثير بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة ولعزة وجوده بين العرب.
{لِنفْتِنهُمْ فِيهِ} لنختبرهم كيف يشكرونه، وقيل معناه أن لو استقام الجن على طريقتهم القديمة ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفرانهم. {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربّهِ} عن عبادته أو موعظته أو وحيه. {يسْلُكْهُ} يدخله وقرأ غير الكوفيين بالنون. {عذابا صعدا} شاقا يعلو المعذب ويغلبه مصدر وصف به.
{وأنّ المساجد لِلّهِ} مختصة به. {فلا تدْعُواْ مع الله أحدا} فلا تعبدوا فيها غيره، ومن جعل {أن} مقدرة باللام علة للنهي ألغى فائدة الفاء، وقيل المراد ب {المساجد} الأرض كلها لأنها جعلت للنبي عليه الصلاة والسلام مسجدا. وقيل المسجد الحرام لأنه قيل المساجد ومواضع السجود على أن المراد النهي عن السجود لغير الله، وآرابه السبعة أو السجدات على أنه جمع مسجد.
{وأنّهُ لّما قام عبْدُ الله} أي النبي عليه الصلاة والسلام وإنما ذكر بلفظ العبد للتواضع فإنه واقع موقع كلامه عن نفسه، والاشعار بما هو المقتضى لقيامه. {يدْعُوهُ} يعبده {كادُواْ} كاد الجن. {يكُونُون عليْهِ لِبدا} متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عبادته وسمعوا من قراءته، أو كاد الإنس والجن يكونون عليه مجتمعين لإِبطال أمره، وهو جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد، وعن ابن عامر {لُبدا} بضم اللام جمع لبدة وهي لغة. وقرئ {لبدا} كسجدا جمع لابد و{لِبدا} كصبر جمع لبود.
{قال إِنّما ادعوا ربّى ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا} فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي، وقرأ عاصم وحمزة {قل} على الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام ليوافق ما بعده.
{قُلْ إِنّى لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} ولا نفعا أو غيا، عبر عن أحدهما باسمه وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارا بالمعنيين.
{قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى مِن الله أحدٌ} إن أراد بي سوءا. {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} منحرفا أو ملتجأ وأصله المدخل من اللحد.
{إِلاّ بلاغا مِّن الله} استثناء من قوله: {لا أملك} فإن التبليغ إرشاد وإنفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أو من ملتحدا أو معناه أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب. {ورسالاته} عطف على {بلاغا} و{مِن الله} صفته فإن صلته عن كقوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه. {فإِنّ لهُ نار جهنّم} وقرئ {فانٍ} على فجزاؤه أن. {خالدين فِيها أبدا} جمعه للمعنى.
{حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون} في الدنيا كوقعة بدر، أو في الآخرة والغاية لقوله: {يكُونُون عليْهِ لِبدا} بالمعنى الثاني، أو لمحذوف دل عليه الحال من استضعاف الكفار وعصيانهم له. {فسيعْلمُون منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا} هو أم هم.
{قُلْ إِنْ أدْرِى} ما أدري. {أقرِيبٌ مّا تُوعدُون أمْ يجْعلُ لهُ ربّى أمدا} غاية تطول مدتها كأنه لما سمع المشركون {حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون} قالوا متى يكون إنكارا، فقيل قل إنه كائن لا محالة ولكن لا أدري ما وقته.
{عالم الغيب} هو عالم الغيب. {فلا يُظْهِرُ} فلا يطلع. {على غيْبِهِ أحدا} أي على الغيب المخصوص به علمه.
{إِلاّ منِ ارتضى} لعلم بعضه حتى يكون له معجزة. {مِن رّسُولٍ} بيان ل {مِنْ}، واستدل به على إبطال الكرامات، وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط، وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء. {فإِنّهُ يسْلُكُ مِن بيْنِ يديْهِ} من بين يدي المرتضى {ومِنْ خلْفِهِ رصدا} حرسا من الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين وتخاليطهم.
{لّيعْلم أن قدْ أبْلغُواْ} أي ليعلم النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة النازلون بالوحي، أو ليعلم الله تعالى أن قد أبلغ الأنبياء بمعنى ليتعلق علمه به موجودا. {رسالات ربّهِمْ} كما هي محروسة من التغيير. {وأحاط بِما لديْهِمْ} بما عند الرسل. {وأحصى كُلّ شيء عددا} حتى القطر والرمل.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جني صدق محمدا أو كذب به عتق رقبة». (1) اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة الجن:
{قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِن الْجِنِّ فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا (1)}
وقرأ الجمهور: {قل أوحي} رباعيا؛ وابن أبي عبلة والعتكي، عن أبي عمرو، وأبو أناس جوية بن عائذ الأسدي: وحى ثلاثيا، يقال: وحى وأوحى بمعنى واحد.
قال العجاج:
وحى إليها القرار فاستقرت

وقرأ زيد بن عليّ وجوية، فيما روي عن الكسائي وابن أبي عبلة أيضا: {أحى} بإبدال الواو همزة، كما قالوا في وعد أعد.
وقال الزمخشري: وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. انتهى.
وليس كما ذكر، بل في ذلك تفصيل، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا، ولكل منها أحكام، وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في النحو.
قال الزمخشري: وقد أطلقه المازني في المكسور أيضا، كإشاح وإسادة وإعاء أخيه. انتهى.
وهذا تكثير وتبجح.
وكان يذكر هذا في {وعاء أخيه} في سورة يوسف.
وعن المازني في ذلك قولان: أحدهما: القياس كما قال، والآخر: قصر ذلك على السماع.
و{أنه استمع} في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي استماع {نفر من الجن}، والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} وهي قصة واحدة.
وقيل: قصتان، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوي، والسورة التي استمعوها، قال عكرمة: {اقرأ باسم ربك} وقيل: سورة الرحمن.
ولم تتعرض الآية، لا هنا ولا في سورة الأحقاف، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام.
ويظهر من الحديث:أن ذلك كان مرتين: إحداهما: في مبدأ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد الله بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه.
فلما أصبح، إذا هو جاء من قبل حراء، وفيه أتاني داعي الجن، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم.
والمرة الآخرى: كان معه ابن مسعود، وقد استندب صلى الله عليه وسلم من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن، فلم يقم أحد غير عبد الله بن مسعود، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب، فخط عليه خطا وقال: لا تجاوزه.
فانحدر عليه صلى الله عليه وسلم أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم.
الحديث.
ويدل على أنهما قصتان، اختلافهم في العدد، فقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وعن زر: كانوا ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق.
وعن عكرمة: كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل، وأين سبعة من اثني عشر ألفا؟
{فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا}: أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم، ووصفوا {قرآنا} بقولهم {عجبا} وصفا بالمصدر على سبيل المبالغة، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه، وحسن مبانيه، ودقة معانيه، وغرابة أسلوبه، وبلاغة مواعظه، وكونه مباينا لسائر الكتب.
والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره.
{يهدي إلى الرشد}: أي يدعو إلى الصواب.
وقيل: إلى التوحيد والإيمان.
وقرأ الجمهور: {الرشد} بضم الراء وسكون الشين؛ وعيسى: بضمهما؛ وعنه أيضا: فتحهما.
{يهدي إلى}: أي بالقرآن.
ولما كان الإيمان به متضمنا الإيمان بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا: {ولن نشرك بربنا أحدا}.
وقرأ الحرميان والأبوان: بفتح الهمزة من قوله: {وأنه تعالى} وما بعده، وهي اثنتا عشرة آية آخرها {وأنا منا المسلمون}؛ وباقي السبعة: بالكسر.
فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله: {إنا سمعنا}، فهي داخلة في معمول القول.
وأما الفتح، فقال أبو حاتم: هو على {أوحى}، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. انتهى.
وهذا لا يصح، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت {أوحى}، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم، كقوله: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع}.
ألا ترى أنه لا يلائم {أوحى إليّ}، {إنا كنا نقعد منها مقاعد}، وكذلك باقيها؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في {به} من قوله: {فآمنا به}: أي وبأنه، وكذلك باقيها، وهذا جائز على مذهب الكوفيين، وهو الصحيح.
وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله: {وكفر به والمسجد الحرام} وقال مكي: هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن.
وقال الزجاج: وجهه أن يكون محمولا على {آمنا به}، لأنه معناه: صدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: فآمنا به أنه تعالى جد ربنا؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال: فتحت أن لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو: صدقنا وشهدنا.
وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه، نحو قوله: {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا}، وتبعهما الزمخشري فقال: ومن فتح كلهن فعطفا على محل الجار والمجرور في {آمنا به}، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي. انتهى.
ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا.
وقرأ الجمهور: {جد ربنا}، بفتح الجيم ورفع الدال، مضافا إلى ربنا: أي عظمته، قاله الجمهور.
وقال أنس والحسن: غناه.
وقال مجاهد: ذكره.
وقال ابن عباس: قدره وأمره.
وقرأ عكرمة: {جد} منونا، {ربنا} مرفوع الباء، كأنه قال: عظيم هو ربنا، فـ: {ربنا} بدل، والجد في اللغة العظيم.
وقرأ حميد بن قيس: {جد} بضم الجيم مضافا ومعناه العظيم، حكاه سيبويه، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى: تعالى ربنا العظيم.
وقرأ عكرمة: {جدا ربنا}، بفتح الجيم والدال منونا، ورفع {ربنا} وانتصب {جدا} على التمييز المنقول من الفاعل، أصله {تعالى جد ربنا}.
وقرأ قتادة وعكرمة أيضا: {جدا} بكسر الجيم والتنوين نصبا، {ربنا} رفع.
قال ابن عطية: نصب {جدا} على الحال، ومعناه: تعالى حقيقة ومتمكنا.
وقال غيره: هو صفة لمصدر محذوف تقديره: تعالى جدا، و{ربنا} مرفوع بـ: {تعالى}.
وقرأ ابن السميفع: {جدي ربنا}، أي جدواه ونفعه.
وقرأ الجمهور: {يقول سفيهنا}: هو إبليس.
وقيل: هو اسم جنس لكل سفيه، وإبليس مقدم السفهاء.
والشطط: التعدي وتجاوز الجد.
قال الأعشى:
أينتهون ولن ينهى ذوو شطط ** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ويقال: أشط في السوم إذا أبعد فيه، أي قولا هو في نفسه شطط، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى.
{وأنا ظننا} الآية: أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن، واعتقدنا أن أحدا لا يجترئ على أن يكذب على الله فينسب إليه الصاحبة والولد، فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم.
وقرأ الجمهور: {أن لن تقول} مضارع قال؛ والحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم: {تقول} مضارع تتقول، حذفت إحدى التاءين وانتصب {كذبا} في قراءة الجمهور بـ: {تقول}، لأن الكذب نوع من القول، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولا كذبا، أي مكذوبا فيه.
وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول، لأنه هو الكذب، فصار كقعدت جلوسا.
{وأنه كان رجال}.
روى الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في وادٍ نادى بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه.
فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك: لا نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئا.
قال مقاتل: أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن، ثم بنو حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب.
والظاهر أن الضمير المرفوع في {فزادوهم} عائد على {رجال من الإنس}، إذ هم المحدث عنهم، وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير.
{فزادوهم} أي الإنس، {رهقا}: أي جراءة وانتخاء وطغيانا وغشيان المحارم وإعجابا بحيث قالوا: سدنا الإنس والجن، وفسر قوم الرهق بالإثم.
وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ** لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقا

قال معناه: ما لم يغش محرما، والمعنى: زادت الإنس الجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى.
وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد: {فزادوهم}، أي الجن زادت الإنس مخافة يتخيلون لهم بمنتهى طاقتهم ويغوونهم لما رأوا من خفة أحلامهم، فازدروهم واحتقروهم.
وقال ابن جبير: {رهقا}: كفرا.
وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجن، فالمعنى: وإنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس، وكان الرجل يقول مثلا: أعوذ بحذيفة بن اليمان من جن هذا الوادي، وهذا قول غريب.
{وإنهم}: أي كفار الإنس، {ظنوا كما ظننتم} أيها الجن، يخاطب به بعضهم بعضا.
وظنوا وظننتم، كل منهما يطلب، {أن لن يبعث}، فالمسألة من باب الإعمال، وإن هي المخففة من الثقيلة.
وقيل: الضمير في وأنهم يعود على الجن، والخطاب في ظننتم لقريش، وهذه والتي قبلها هما من الموحى به لا من كلام الجن: {أن لن يبعث الله أحدا}: الظاهر أنه بعثة الرسالة إلى الخلق، وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر.
وقيل: بعث القيامة.
{وأنا لمسنا السماء}: أصل اللمس المس، ثم استعير للتطلب، والمعنى: طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فوجدناها ملئت.
الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد، والجملة من {ملئت} في موضع الحال، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين، فـ: {ملئت} في موضع المفعول الثاني.
وقرأ الأعرج: {مليت} بالياء دون همز، والجمهور: بالهمز، و{شديدا}: صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع، كما قال:
أخشى رجيلا أو ركيبا عاديا

ولو لحظ المعنى لقال: شدادا بالجمع.
والظاهر أن المراد بالحرس: الملائكة، أي حافظين من أن تقربها الشياطين، وشهبا جمع شهاب، وهو ما يرحم به الشياطين إذا استمعوا.
قيل: ويحتمل أن يكون الشهب هم الحرس، وكرر المعنى لما اختلف اللفظ نحو:
وهند أتى من دونها النأي والبعد

وقوله: {فوجدناها ملئت} يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت.
{مقاعد} جمع مقعد، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها، ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة.
{فمن يستمع الأن}، الآن ظرف زمان للحال، ويستمع مستقبل، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال، كما قال:
سأسعى الآن إذ بلغت اناها

فالمعنى: فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي، {يجد له شهابا رصدا}: أي يرصده فيحرقه، هذا لمن استمع.
وأما السمع فقد انقطع، كما قال تعالى: {إنهم عن السمع لمعزولون} والرجم كان في الجاهلية، وذلك مذكور في أشعارهم، ويدل عليه الحديث: حين رأى عليه الصلاة والسلام نجما قد رمي به، قال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية»؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم.
قال أوس بن حجر:
وانقض كالدري يتبعه ** نقع يثور بحالة طنبا

وقال عوف بن الجزع:
فرد علينا العير من دون إلفه ** أو الثور كالدري يتبعه الدم

وقال بشر بن أبي حازم:
والعير يرهقها الغبار وجحشها ** ينقض خلفهما انقضاض الكوكب

قال التبريزي: وهؤلاء الشعراء كلهم جاهليون ليس فيهم محضرم، وقال معمر: قلت للزهري: أكان يرمي بالنجوم في الجاهلي؟ قال: نعم، قلت: أرأيت قوله: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع}؟ فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الجاحظ: القول بالرمي أصح لقوله: {فوجدناها ملئت}، وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت، ولما روى ابن عباس وذكر الحديث السابق.
وقال الزمخشري: تابعا للجاحظ، وفي قوله دليل على أن الحرس هو الملء والكثرة، فلذلك {نقعد منها مقاعد}: أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها. انتهى.
وهذا كله يبطل قول من قال: إن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إحدى آياته.
والظاهر أن رصدا على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع.
ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض}، وهو كفرهم بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل بهم الشر، {أم أراد بهم ربهم رشدا}، فيؤمنون به فيرشدون.
وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى الله تعالى، وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى.
{وأنا منا الصالحون}: أخبروا بما هم عليه من صلاح وغيره.
{ومنا دون ذلك}: أي دون الصالحين، ويقع دون في مواضع موقع غير، فكأنه قال: ومنا غير صالحين.
ويجوز أن يريدوا: ومنا دون ذلك في الصلاح، أي فيهم أبرار وفيهم من هو غير كامل في الصلاح، ودون في موضع الصفة لمحذوف، أي ومنا قوم دون ذلك.
ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن، حتى في الجمل، قالوا: منا ظعن ومنا أقام، يريدون: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، والجملة من قوله: {كنا طرائق قددا} تفسير للقسمة المتقدمة.
قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: أهواء مختلفة، وقيل: فرقا مختلفة.
وقال الزمخشري: أي كنا ذوي مذاهب مختلفة، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله:
كما عسل الطريق الثعلب

أو كانت طرائقنا قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى.
وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه، إذ حذف ذوي ومثل.
وأما التقدير الثالث، وهو أن ينتصب على إسقاط في، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ، فلا يخرج القرآن عليه.
{وأنا ظننا أن لن نعجز الله}: أي أيقنا، {في الأرض}: أي كائنين في الأرض، {ولن نعجزه هربا}: أي من الأرض إلى السماء، وفي الأرض وهربا حالان، أي فارين أو هاربين.
{وأنا لما سمعنا الهدى}: وهو القرآن، {آمنا به}: أي بالقرآن، {فمن يؤمن بربه فلا يخاف}: أي فهو لا يخاف.
وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور: {فلا يخاف}، وخرجت قراءتهما على النفي.
وقيل: الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوما دون الفاء، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ، أي فهو لا يخاف.
والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة.
{بخسا}، قال ابن عباس: نقص الحسنات، {ولا رهقا}، قال: زيادة في السيئات، {ولا رهقا}، قيل: تحميل ما لا يطاق.
وقال الزمخشري: أي جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد، فلا يخاف جزاءهما.
ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة من قوله عز وجل: {ترهقهم ذلة} انتهى.
وقرأ الجمهور: {بخسا} بسكون الخاء؛ وابن وثاب: بفتحها.
{ومنا القاسطون}: أي الكافرون الجائزون عن الحق.
قال مجاهد وقتادة: والبأس القاسط: الظالم، ومنه قول الشاعر:
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ** وهمو اقسطوا على النعمان

وجاء هذا التقسيم، وإن كان قد تقدم {وأنا منا الصالحون}، ومنا دون ذلك ليذكر حال الفريقين من النجاة والهلكة ويرغب من يدخل في الإسلام.
والظاهر أن {فمن أسلم} إلى آخر الشرطين من كلام الجن.
وقال ابن عطية: الوجه أن يكون {فمن أسلم} مخاطبة من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما بعد من الآيات.
وقرأ الأعرج: رشدا، بضم الراء وسكون الشين؛ والجمهور: بفتحهما.
وقال الزمخشري: وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم، وكفى به وعيدا، أي فأولئك تحروا رشدا، فذكر سبب الثواب وموجبه، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.
انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال في قوله وموجبه.
{وألّوِ اسْتقامُوا على الطّرِيقةِ لأسْقيْناهُمْ ماء غدقا (16)}
هذا من جملة الموحى المندرج تحت {أوحى إليّ}، وأن مخففة من الثقيلة، والضمير في {استقاموا}، قال الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبو مجلز: هو عائد على قوله: {فمن أسلم}، والطريقة: طريقة الكفر، أي لو كفر من أسلم من الناس {لأسقيناهم} إملاء لهم واستدراجا واستعارة، الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جبير: هو عائد على القاسطين، والمعنى على الطريقة الإسلام والحق، لأنعمنا عليهم، نحو قوله: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا} وقيل: الضمير في استقاموا عائد على الخلق كلهم، وأن هي المخففة من الثقيلة.
{لأسقيناهم ماء غدقا}: كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش.
وقال بعضهم: المال حيث الماء.
وقرأ الجمهور: {غدقا} بفتح الدال؛ وعاصم في رواية الأعشى: بكسرها؛ ويقال: غدقت العين تغدق غدقا فهي غدقة، إذا كثر ماؤها.
{لنفتنهم}: أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به، أو لنمتحنهم ونستدرجهم، وذلك على الخلاف في من يعود عليه الضمير في {استقاموا}.
وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو؛ والجمهور: بكسرها.
وقرأ الكوفيون: {يسلكه} بالياء؛ وباقي السبعة: بالنون؛ وابن جندب: بالنون من أسلك؛ وبعض التابعين: بالياء من أسلك أيضا، وهما لغتان: سلك وأسلك، قال الشاعر:
حتى إذا أسلكوهم في قبائدة

وقرأ الجمهور: {صعدا} بفتحتين، وذو مصدر صعد وصف به العذاب، أي يعلو المعذب ويغلبه، وفسر بشاق.
يقال: فلان في صعد من أمره، أي في مشقة.
وقال عمر: ما يتصعد بي شيء كما يتصعد في خطبة النكاح، أي ما يشق عليّ.
وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس: صعد: جبل في النار.
وقال الخدري: كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت.
وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم، فعلى هذا يجوز أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف، أي عذاب صعد.
ويجوز أن يكون {صعدا} مفعول {يسلكه}، و{عذابا} مفعول من أجله.
وقرأ قوم: {صعدا} بضمتين؛ وابن عباس والحسن: بضم الصاد وفتح العين.
قال الحسن: معناه لا راحة فيه.
وقرأ الجمهور: {وأن المساجد}، بفتح الهمزة عطفا على {أنه استمع}، فهو من جملة الموحى.
وقال الخليل: معنى الآية: {وأن المساجد لله فلا تدعوا}: أي لهذا السبب، وكذلك عنده {لإيلاف قريش} {فليعبدوا} وكذلك {وأن هذه أمتكم} أي ولأن هذه.
وقرأ ابن هرمز وطلحة: {وإن المساجد}، بكسرها على الاستئناف وعلى تقدير الخليل، فالمعنى: فلا تدعوا مع الله أحدا في المساجد لأنها لله خاصة ولعبادته، والظاهر أن المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كل ملة.
وقال الحسن: كل موضع سجد فيه فهو مسجد، كان مخصوصا لذلك أو لم يكن، لأن الأرض كلها مسجد هذه الأمة.
وأبعد ابن عطاء في قوله إنها الآراب التي يسجد عليها، واحدها مسجد بفتح الجيم، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان عد الجبهة والأنف واحدا وأبعد أيضا من قال المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد، وقال: إنه جمع مسجد وهو السجود.
وروي أنها نزلت حين تغلبت قريش على الكعبة، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المواضع كلها لله، فاعبده حيث كنت.
وقال ابن جبير: نزلت لأن الجن قالت: يا رسول الله، كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك؟ فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة إذ دخلنا المساجد.
وقرأ الجمهور: {وأنه لما قام عبد الله} بفتح الهمزة، عطفا على قراءتهم {وأن المساجد} بالفتح.
وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر بكسرها على الاستئناف؛ وعبد الله هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، {يدعوه}: أي يدعو الله {كادوا}: أي كاد الجن، قال ابن عباس والضحاك: ينقضون عليه لاستماع القرآن.
وقال الحسن وقتادة: الضمير في {كادوا} لكفار قريش والعرب في اجتماعهم على رد أمره.
وقال ابن جبير: المعنى أنها قول الجن لقومهم يحكمون، والضمير في {كادوا} لأصحابة الذين يطوعون له ويقيدون به في الصلاة.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل رسول الله أو النبي؟ قلت: لأن تقديره وأوحي إليّ أنه لما قام عبد الله، فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل؛ أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستعبد عن العقل ولا مستنكر حتى يكونوا عليه لبدا.
ومعنى قام يدعوه: قام يعبده، يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن، فاستمعوا لقراءته عليه السلام.
{كادوا يكونون عليه لبدا}: أي يزدحمون عليه متراكمين، تعجبا مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائما وراكعا وساجدا، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره.
انتهى، وهو قول متقدم كثره الزمخشري بخطابته.
وقرأ الجمهور: {لبدا} بكسر اللام وفتح الباء جمع لبدة، نحو: كسرة وكسر، وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض، ومنه قول عبد مناف بن ربيع:
صافوا بستة أبيات وأربعة ** حتى كأن عليهم جانبا لبدا

وقال ابن عباس: أعوانا.
وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر: بخلاف عنه بضم اللام جمع لبدة، كزبرة وزبر؛ وعن ابن محيصن أيضا: تسكين الباء وضم اللام {لبدا}.
وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو: بضمتين جمع لبد، كرهن ورهن، أو جمع لبود، كصبور وصبر.
وقرأ الحسن والجحدري: بخلاف عنهما، {لبدا} بضم اللام وشد الباء المفتوحة.
قال الحسن وقتادة وابن زيد: لما قام الرسول للدعوة، تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره.
انتهى.
وأبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام، كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله منهم، قاله الحسن.
وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام.
وقرأ الجمهور: {قال إنما أدعوا ربي}: أي أعبده، أي قال للمتظاهرين عليه: {إنما ادعوا ربي}: أي لم آتكم بأمر ينكر، إنما أعبد ربي وحده، وليس ذلك مما يوجب إطباقكم على عداوتي.
أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادة الله بأمر يتعجب منه، إنما يتعجب ممن يعبد غيره.
أو قال الجن لقومهم: ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مرتب على الخلاف في عود الضمير في {كادوا}.
وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بخلاف عنه: {قل}: أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك، وهم إما الجن وإما المشركون، على اختلاف القولين في ضمير {كادوا}.
ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم، وجعل الضر مقابلا للرشد تعبيرا به عن الغي، إذ الغي ثمرته الضرر، يمكن أن يكون المعنى: ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا، فحذف من كل ما يدل عليه مقابله.
قرأ الأعرج: {رشدا} بضمتين.
ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى، يفعل فيه ربه ما يريد، وأنه لا يمكن أن يجيره منه أحد، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه، قال قريبا منه قتادة.
وقال السدي: حرزا.
وقال الكلبي: مدخلا في الأرض، وقيل: ناصرا، وقيل: مذهبا ومسلكا، ومنه قول الشاعر:
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية ** عني وما من قضاء الله ملتحد

وقيل: في الكلام حذف وهو: قالوا له أترك ما ندعو إليه ونحن نجيرك، فقيل له: قل لن يجيرني.
وقيل: هو جواب لقول وردان سيد الجن، وقد ازدحموا عليه، قال وردان: أنا أرحلهم عنك، فقال: إني لن يجبرني أحد، ذكره الماوردي.
{إلا بلاغا}، قال الحسن: هو استثناء منقطع، أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت رحمني بذلك.
والإجارة للبلاغ مستعارة، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته.
وقيل على هذا المعنى: هو استثناء متصل، أي لن يجيرني في أحد، لكن لم أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحدا وعلى البدل وهو الوجه، لأن ما قبله نفيا، وعلى البدل خرجه الزجاج.
وقال أبو عبد الله الرازي: هذا الاستثناء منقطع، لأنه لم يقل: ولم أجد ملتحدا بل، قال: {من دونه}؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله: {من دونه ملتحدا} لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه.
وقال قتادة: التقدير لا أملك إلا بلاغا إليكم، فأما الإيمان والكفر فلا أملك.
انتهى، وفيه بعد لطول الفصل بينهما.
وقيل، إلا في تقدير الانفصال: إن شرطية ولا نافية، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه، والتقدير: إن لم أبلغ بلاغا من الله ورسالته، وهذا كما تقول: إن لا قياما قعودا، أي إن لم تقيم قياما فاقعد قعودا، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله، كما حذف في قوله:
فطلقها فلست لها بكفء ** وإلا يعل مفرقك الحسام

التقدير: وإن لا تطقها، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه، ومن لابتداء الغاية.
وقال الزمخشري: تابعا لقتادة، أي لا أملك إلا بلاغا من الله، و{قل إني لن يجيرني}: جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى إن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه. انتهى.
{ورسالاته}، قيل: عطف على {بلاغا}، أي إلا أن أبلغ عن الله، أو أبلغ رسالاته.
الظاهر أن رسالاته عطف على الله، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته.
{ومن يعص الله ورسوله}: أي بالشرك والكفر، ويدل عليه قوله: {خالدين فيها أبدا}.
وقرأ الجمهور: {فإن له} بكسر الهمزة.
وقرأ طلحة: بفتحها، والتقدير: فجزاؤه أن له.
قال ابن خالويه: وسمعت ابن مجاهد يقول: ما قرأ به أحد وهو لحن، لأنه بعد فاء الشرط.
وسمعت ابن الأنباري يقول: هو ضراب، ومعناه: فجزاؤه أن له نار جهنم. انتهى.
وكان ابن مجاهد إماما في القراءات، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ، وكان ضعيفا في النحو.
وكيف يقول ما قرأ به أحد؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به.
وكيف يقول وهو لحن؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر.
وجمع {خالدين} حملا على معنى من، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله: {يعص}، {فإن له}.
{حتى إذا رأوا}: حتى هنا حرف ابتداء، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر، ومع ذلك فيها معنى الغاية.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله: {يكونون عليه لبدا}، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم {حتى إذا رأوا ما يوعدون} من يوم بدر، وإظهار الله له عليهم، أو من يوم القيامة، {فسيعلمون} حينئذ أنهم {أضعف ناصرا وأقل عددا}.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده، كأنه لا يزالون على ما هم عليه {حتى إذا رأوا ما يوعدون}.
قال المشركون: متى يكون هذا الموعد إنكارا له؟ فقيل: قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه، فإن الله قد وعد ذلك، وهو لا يخلف الميعاد.
وأما وقته فلا أدري متى يكون، لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة. انتهى.
وقوله: بم تعلق إن؟ عنى تعلق حرف الجر، فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء، فما بعدها ليس في موضع جر خلافا للزجاج وابن درستوية، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء، فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر؛ وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها، وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح.
وأما تقديره أنها تتعلق بقوله: {يكونون عليه لبدا}، فهو بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة.
وقال التبريزي: حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف، ولم يبين ما المحذوف.
وقيل: المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة، {فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا}، أهم أم أهل الكتاب؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم، كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون.
فقوله: {فأن له نار جهنم} هو وعيد لهم بالنار، ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله، وهو معلق عنه لأن من استفهام.
ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون، وأضعف خبر مبتدأ محذوف.
والجملة صلة لمن، وتقديره: هو أضعف، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصرا.
قال مكحول: لم ينزل هذا إلا في الجن، أسلم منهم من وفق وكفر من خذل كالإنس، قال: وبلغ من تابع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن سبعين ألفا، وفزعوا عند انشقاق الفجر.
ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنه لا يدري وقت طول ما وعدوا به، أهو قريب أم بعيد؟.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: {أم يجعل له ربي أمدا}، والأمد يكون قريبا وبعيدا؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا}؟ قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد، فكأنه قال: (ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية)؟ أي هو عالم الغيب.
{فلا يظهر}: فلا يطلع، و{من رسول} تبيين لمن ارتضى، يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضي الذي هو مصطفى للنبوّة خاصة، لا كل مرتضي، وفي هذه إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم، وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل.
وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط.
انتهى.
وقال ابن عباس: {عالم الغيب}، قال الحسن: ما غاب عن خلقه، وقيل: الساعة.
وقال ابن عباس: إلا بمعنى لكن، فجعله استثناء منقطعا.
وقيل: إلا بمعنى ولا أي، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب، أو بدل من ربي.
وقرئ: {عالم} بالنصب على المدح.
وقال السدّي: علم الغيب، فعلا ماضيا ناصبا، والجمهور: {عالم الغيب} اسم فاعل مرفوعا.
وقرأ الجمهور: {فلا يظهر} من أظهر؛ والحسن: يظهر بفتح الياء والهاء من ظهر، {إلا من ارتضى من رسول}: استثناء من أحدا، أي فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك، فإنه يسلك الله من بين يدي ذلك الرسول، {ومن خلفه رصدا}: أي حفظة يحفظونه من الجن ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إلى ذلك الرسول من علم الغيب.
وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.
وقال القرطبي: قال العلماء: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، ثم ذكر استدلالا على بطلان ما يقوله المنجم، ثم قال باستحلال دم المنجم.
وقال الواحدي: في هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.
قال أبو عبد الله الرازي والواحدي: تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف، فجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه، لأن قوله: {على غيبه} ليس فيه صفة عموم، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر خلقه تعالى على غيب واحد من غيوبه، ويحمله على وقت قيام القيامة فلا يبقى دليل في الآية على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد، ويؤكده أنه ذكر هذه الآية عقيب قوله: {إن أدري أقريب ما توعدون} الآية: أي لا أدري وقت وقوع القيامة، إذ هي من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد.
و{إلا من ارتضى}: استثناء منقطع، كأنه قال: فلا يظهر على غيبه المخصوص أحدا إلا من ارتضى من رسول، فله حفظة يحفظونه من شرّ مردة الإنس والجن.
قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أنه لابد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام، والذي يدل عليه وجوه: أحدها: أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلى الله عليه وسلم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وثانيها: إطباق الأمم على صحة علم التعبير، فيخبر المعبر عن ما يأتي في المستقبل ويكون صادقا.
وثالثها: أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها، فقد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال: فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخبارا مطابقة موافقة.
ورابعها: أنا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة، ليس هذا مختصا بالأولياء، فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق، وإن كان الكذب يقع منهم كثيرا.
وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن، وذلك بأطل.
فقلنا: إن التأويل الصحيح ما ذكرناه.
انتهى، وفيه بعض تلخيص.
وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه.
أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب، لأنه مما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع، كما جاء في الحديث: «إنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة» وليس هذا من علم الغيب، إذ تكلمت به الملائكة، وتلقفها الجني، وتلقفها منه الكاهن؛ فالكاهن لم يعلم الغيب.
وأما تعبير المنامات، فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع، بل على سبيل الحزر والتخمين، وقد يقع ما يعبر به وقد لا يقع.
وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلا أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها، ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا، وهو العالم المصنف الذي طبق ذكره الآفاق، وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف.
وأما حكايته عن صاحب المعتبر، فهو يهودي أظهر إسلامه وهو منتحل طريقة الفلاسفة.
وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة، فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح، فلم أر أحدا منهم صاحب إلهام صادق.
وأما الكرامات، فلا أشك في صدور شيء منها، لكن ذلك على سبيل الندرة، وذلك في من سلف من صلحاء هذه الأمة؛ وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامات، ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء والله الموفق.
وقرأ الجمهور: {ليعلم} مبنيا للفاعل.
قال قتادة: {ليعلم} محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وحفظوا.
وقال ابن جبير: {ليعلم} محمد {أن} الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه {قد أبلغوا رسالات ربهم}.
وقال مجاهد: {ليعلم} من أشرك وكذب أن الرسل قد بلغت، وعلى هذا القول لا يقع لهم هذا العلم إلا في الآخرة.
وقيل: {ليعلم} الله رسله مبلغة خارجة إلى الوجود، لأن علمه بكل شيء قد سبق.
واختار الزمخشري هذا القول الأخير فقال: {ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالات ربهم}: يعني الأنبياء.
وحد أولا على اللفظ في قوله: {من بين يديه ومن خلفه}، ثم جمع على المعنى كقوله: {فإن له نار جهنم خالدين}، والمعنى: ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان، وذكر العلم كذكره في قوله: {حتى نعلم المجاهدين} انتهى.
وقيل: {ليعلم}، أي: أيّ رسول كان أن الرسل سواه بلغوا.
وقيل: ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه وإسراف أصحابه.
وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم.
وقيل: ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.
وقيل: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المتلقين بإستراق السمع.
وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ: {ليعلم}، بضم الياء مبنيا للمفعول؛ والزهري وابن أبي عبلة: بضم الياء وكسر اللام، أي ليعلم الله، أي من شاء أن يعلمه، أن الرسل قد أبلغوا رسالاته.
وقرأ الجمهور: {رسالات} على الجمع؛ وأبو حيوة: على الإفراد.
وقرأ الجمهور: {وأحاط بما لديهم}: {وأحاط} مبنيا للفاعل، أي الله، {وأحصى}: مبنيا للفاعل، أي الله كل نصبا؛ وابن أبي عبلة: {وأحيط} {وأحصى} مبنيا للمفعول كل رفعا.
ولما كان {ليعلم} مضمنا معنى علم، صار المعنى: قد علم ذلك، فعطف {وأحاط} على هذا الضمير، والمعنى: وأحاط بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء.
{وأحصى كل شيء عددا}: أي معدودا محصورا، وانتصابه على الحال من {كل شيء}، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم.
ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون تمييزا.
انتهى، فيكون منقولا من المفعول، إذا أصله: وأحصى عدد كل شيء، وفي كونه ثابتا من لسان العرب خلاف. اهـ.